فصل: سورة إبراهيم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 سورة إبراهيم

بسم اللّه الرحمن الرحيم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 3‏)‏

‏{‏ الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ‏.‏ الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد ‏.‏الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد ‏}‏

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور‏.‏ ‏{‏كتاب أنزلناه إليك‏}‏ أي هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد، وهو القرآن العظيم الذي هو أشرف كتاب أنزله اللّه من السماء، على أشرف رسول بعثه اللّه في الأرض، إلى جميع أهلها عربهم وعجمهم، ‏{‏لتخرج الناس من الظلمات إلى النور‏}‏ أي إنما بعثناك يا محمد بهذا الكتاب لتخرج الناس مما هم فيه من الضلال والغي، إلى الهدى والرشد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏بإذن ربهم‏}‏ أي هو الهادي لمن قدر له الهداية على يدي رسوله المبعوث عن أمره، يهديهم ‏{‏إلى صراط العزيز‏}‏ أي العزيز الذي لا يمانع ولا يغالب بل هو القاهر لكل ما سواه، ‏{‏الحميد‏}‏ أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعته وأمره ونهيه، الصادق في خبره، ‏{‏اللّه الذي له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ بالجر على الاتباع صفة للجلالة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا أيها الناس إني رسول اللّه إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض‏}‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وويل للكافرين من عذاب شديد‏}‏ أي ويل لهم يوم القيامة إذ خالفوك يا محمد وكذبوك، ثم وصفهم بأنهم يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، أي يقدمونها ويؤثرونها عليها ويعملون للدنيا، ونسوا الآخرة وتركوها وراء ظهورهم‏.‏ ‏{‏ويصدون عن سبيل اللّه‏}‏ وهي اتباع الرسل، ‏{‏ويبغونها عوجا‏}‏ أي ويحبون أن تكون سبيل اللّه عوجاً مائلة عائلة، وهي مستقيمة في نفسها، لا يضرها من خالفها ولا من خذلها، فهم في ابتغائهم ذلك في جهل وضلال بعيد من الحق لا يرجى لهم والحالة هذه صلاح‏.‏

 الآية رقم ‏(‏4‏)‏

‏{‏ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ‏}‏

هذا من لطفه تعالى بخلقه أنه يرسل إليهم رسلاً منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسولا به إليهم، كما روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لم يبعث اللّه عزَّ وجلَّ نبياً إلا بلغة قومه‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فيضل اللّه من يشاء ويهدي من يشاء‏}‏ أي بعد البيان وإقامة الحجة عليهم، يضل اللّه من يشاء عن وجه الهدى، ويهدي من يشاء إلى الحق ‏{‏وهو العزيز‏}‏ الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ‏{‏الحكيم‏}‏ في أفعاله فيضل من يستحق الإضلال، ويهدي من هو أهل لذلك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏5‏)‏

‏{‏ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ وكما أرسلناك يا محمد وأنزلنا عليك الكتاب، لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، كذلك أرسلنا موسى إلى بني إسرائيل بآياتنا‏.‏ قال مجاهد‏:‏ هي التسع الآيات، ‏{‏أن أخرج قومك‏}‏ أي أمرناه قائلين له‏:‏ ‏{‏أخرج قومك من الظلمات إلى النور‏}‏ أي ادعهم إلى الخير ليخرجوا من ظلمات ما كانوا فيه من الجهل والضلال، إلى نور الهدى وبصيرة الإيمان، ‏{‏وذكرهم بأيام اللّه‏}‏ أي بأياديه ونعمه عليهم ورد تفسير ‏{‏أيام اللّه‏}‏ بالنعم في حديث مرفوع عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذكرهم بأيام اللّه‏}‏ قال‏:‏ بنعم اللّه، قال ابن كثير‏:‏ وورد موقوفاً وهو أشبه ، في إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره وظلمه وغشمه، وإنجائه إياهم من عدوهم، وفلقه

لهم البحر، وتظليله إياهم بالغمام، وإنزاله عليهم المن والسلوى، إلى غير ذلك من النعم‏.‏ قال ذلك مجاهد وقتادة ذلك وغير واحد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور‏}‏ أي إن فيما صنعنا بأوليائنا بني إسرائيل حين أنقذناهم من يد فرعون، وأنجيناهم مما كانوا فيه من العذاب المهين، لعبرة لكل ‏{‏صبار‏}‏ أي في الضراء، ‏{‏شكور‏}‏ أي في السراء، كما قال قتادة‏:‏ نعم العبد عبد إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر‏.‏ وكذا جاء في الصحيح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن أمر المؤمن كله عجب، لا يقضي اللّه له قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له‏)‏

 الآية رقم ‏(‏6 ‏:‏ 8‏)‏

‏{‏ وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ‏.‏ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ‏.‏ وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن موسى حين ذكّر قومه بأيام اللّه عندهم ونعمه عليهم، إذ أنجاكم من آل فرعون وما كانوا يسومونهم به من العذاب والإذلال، حيث كانوا يذبحون من وجد من أبنائهم، ويتركون إناثهم فأنقذهم اللّه من ذلك، وهذه نعمة عظيمة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم‏}‏ أي نعمة عظيمة منه عليكم في ذلك أنتم عاجزون عن القيام بشكرها‏.‏ وقيل ‏{‏بلاء‏}‏ أي اختبار عظيم، ويحتمل أن يكون المراد هذا، وهذا - واللّه أعلم - كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإذ تأذن ربكم‏}‏ أي آذنكم وأعلمكم بوعده لكم؛ ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ وإذ أقسم ربكم وآلى بعزته وجلاله وكبريائه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لئن شكرتم لأزيدنكم‏}‏ أي لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها، ‏{‏ولئن كفرتم‏}‏ أي كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها، ‏{‏إن عذابي لشديد‏}‏ وذلك بسلبها عنهم وعقابه إياهم على كفرها، وقد جاء الحديث‏:‏ ‏(‏إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن اللّه لغني حميد‏}‏ أي

هو غني عن شكر عباده، وهو الحميد المحمود وإن كفره من كفره‏.‏

 الآية رقم ‏(‏9‏)‏

‏{‏ ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ‏}‏

قص اللّه علينا خبر نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل مما لا يحصي عددهم إلا اللّه عزَّ وجلَّ، ‏{‏جاءتهم رسلهم بالبينات‏}‏ أي بالحجج والدلائل الواضحات الباهرات القاطعات، وقوله‏:‏ ‏{‏فردوا أيديهم في أفواههم‏}‏ اختلف المفسرون في معناه، قيل‏:‏ معناه أنهم أشاروا إلى أفواه الرسل يأمرونهم بالسكوت عنهم لمّا دعوهم إلى اللّه عزَّ وجلَّ، وقيل بل وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيباً لهم، وقال مجاهد وقتادة‏:‏ معناه أنهم كذبواهم وردوا عليهم قولهم بأفواههم، ويؤيد قول مجاهد‏:‏ تفسير ذلك بتمام الكلام ‏{‏وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب‏}‏ فكأن هذا - واللّه أعلم - تفسير لمعنى‏:‏ ‏{‏فردوا أيديهم في أفواههم‏}‏، وقال العوفي عن ابن عباس‏:‏ لما سمعوا كلام اللّه عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم، وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم

به الآية، يقولون‏:‏ لا نصدقكم فيما جئتم به فإن عندنا فيه شكاً قوياً‏.‏

 الآية رقم ‏(‏10 ‏:‏ 12‏)‏

‏{‏ قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين ‏.‏ قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن اللّه يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن اللّه وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون ‏.‏ وما لنا ألا نتوكل على اللّه وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى اللّه فليتوكل المتوكلون ‏}‏

يخبر تعالى عما دار بين الكفار وبين رسلهم من المجادلة، وذلك أن أممهم لما واجهوهم بالشك فيما جاؤوهم به من عبادة اللّه وحده لا شريك له، قالت الرسل‏:‏ ‏{‏أفي اللّه شك‏}‏، أفي وجوده شك‏؟‏ فإن الفطر شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به، فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة، ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطرار، فتحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده، ولهذا قالت الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه‏:‏ ‏{‏فاطر السماوات والأرض‏}‏ الذي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق، فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليهما فلا بد لهما من صانع، وهو اللّه لا إله إلا هو خالق كل شيء وإلهه ومليكه، وقالت لهم رسلهم‏:‏ ‏{‏يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم‏}‏ أي في الدار الآخرة، ‏{‏ويؤخركم إلى أجل مسمى‏}‏ أي في الدنيا، فقالت لهم الأمم‏:‏ ‏{‏إن أنتم إلا بشر مثلنا‏}‏ أي كيف نتبعكم بمجرد قولكم ولما نر منكم معجزة، ‏{‏فأتونا بسلطان مبين‏}‏ أي خارق نقترحه عليكم، ‏{‏قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم‏}‏ أي صحيح إنا بشر مثلكم في البشرية، ‏{‏ولكن اللّه يمن على من يشاء من عباده‏}‏ أي بالرسالة والنبوة، ‏{‏وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان‏}‏ على وفق ما سألتم ‏{‏إلا بإذن اللّه‏}‏، أي بعد سؤالنا إياه وإذنه لنا في ذلك، ‏{‏وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون‏}‏ أي في جميع أمورهم‏.‏ ثم قالت الرسل‏:‏ ‏{‏وما لنا ألا نتوكل على اللّه‏}‏ أي وما يمنعنا من التوكل عليه‏؟‏ وقد هدانا لأقوم الطرق وأوضحها وأبينها، ‏{‏ولنصبرن على ما آذيتمونا‏}‏ أي من الكلام السيء والأفعال السخيفة، ‏{‏وعلى اللّه فليتوكل المتوكلون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏13 ‏:‏ 17‏)‏

‏{‏ وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ‏.‏ ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ‏.‏ واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ‏.‏ من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد ‏.‏ يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ ‏}‏

يخبر تعالى عما توعدت به الأمم الكافرة رسلهم من الإخراج من أرضهم والنفي من بين أظهرهم، كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به‏:‏ ‏{‏لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا‏}‏ الآية، وكما قال قوم لوط‏:‏ ‏{‏أخرجوا آل لوط من قريتكم‏}‏ الآية، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين‏.‏ ولنسكننكم الأرض من بعدهم‏}‏، كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وإن جندنا لهم الغالبون‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كتب اللّه لأغلبن أنا ورسلي إن اللّه قوي عزيز‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وقال موسى لقومه استعينوا باللّه واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة

للمتقين‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد‏}‏ أي وعيدي، هذا لمن خاف مقامي بين يدي يوم القيامة، وخشي من وعيدي وهو تخويفي وعذابي، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏ولمن خاف مقام ربه جنتان‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏واستفتحوا‏}‏ أي استنصرت الرسل ربها على قومهم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وقال ابن أسلم‏:‏ استفتحت الأمم على أنفسها، كما قالوا‏:‏ ‏{‏اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم‏}‏، ويحتمل أن يكون مراداً، وهذا مراداً، كما أنهم استفتحوا على أنفسهم يوم بدر، واستفتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واستنصر، وقال اللّه تعالى للمشركين‏:‏ ‏{‏إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم‏}‏ الآية، ‏{‏وخاب كل جبار عنيد‏}‏ أي متجبر في نفسه عنيد معاند للحق، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألقيا في جهنم كل كفار عنيد، مناع للخير معتد مريب‏}‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إنه يؤتى بجهنم يوم القيامة، فتنادي الخلائق فتقول‏:‏ إني وكلت بكل جبار عنيد‏)‏ الحديث، وقوله‏:‏ ‏{‏من ورائه جهنم‏}‏ وراء هنا بمعنى أمام، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا‏}‏، وكان ابن عباس يقرؤها‏:‏ وكان أمامهم ملك، أي من وراء الجبار العنيد جهنم، أي هي له بالمرصاد يسكنها مخلداً يوم المعاد، ويعرض عليها غدواً وعشياً إلى يوم التناد، ‏{‏ويسقى من ماء صديد‏}‏ أي في النار ليس له شراب إلا من حميم وغساق، كما قال‏:‏ ‏{‏هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج‏}‏، وقال مجاهد‏:‏ الصديد من القيح والدم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو ما يسيل من لحمه وجلده، وفي رواية عنه‏:‏ الصديد ما يخرج من جوف الكافر فقد خالط القيح والدم، وفي حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت، قلت‏:‏ يا رسول اللّه ما طينة الخبال‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏صديد أهل النار‏)‏، وفي رواية‏:‏ ‏(‏عصارة أهل النار‏)‏، وقال الإمام أحمد، عن أبي أمامة رضي اللّه عنه، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏ويسقى من ماء صديد يتجرعه‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏يقرب إليه فيتكرهه، فإذا أدني منه شوي وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره‏)‏، يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم‏}‏، ويقول‏:‏ ‏{‏وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه‏}‏ الآية ‏"‏أخرجه الإمام أحمد وابن جرير‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يتجرعه‏}‏ أي يتغصصه ويتكرهه، أي يشربه قهراً وقسراً لا يضعه في فمه حتى يضربه الملك بمطراق من حديد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولهم مقامع من حديد‏}‏، ‏{‏ولا يكاد يسيغه‏}‏ أي يزدرده لسوء طعمه ولونه وريحه وحرارته أو برده الذي لا يستطاع، ‏{‏ويأتيه الموت من كل مكان‏}‏ أي يألم له جميع بدنه من كل عظم وعصب وعرق، وقال عكرمة‏:‏ حتى من أطراف شعره، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏ويأتيه الموت من كل مكان‏}‏ قال‏:‏ أنواع العذاب الذي يعذبه اللّه بها يوم القيامة في نار جهنم ليس منها نوع إلا يأتيه الموت منه، لو كان يموت، ولكن لا يموت لأن اللّه تعالى قال‏:‏ ‏{‏لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها‏}‏، ومعنى كلام ابن عباس رضي اللّه عنه أنه ما من نوع من هذه الأنواع من العذاب إلا إذا ورد عليه، اقتضى أن يموت منه

لو كان يموت، ولكنه لا يموت ليخلد في دوام العذاب والنكال، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن ورائه عذاب غليظ‏}‏ أي وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ أي مؤلم صعب شديد أغلظ من الذي قبله وأدهى وأمر، وهذا كما قال تعالى عن شجرة الزقوم‏:‏ ‏{‏فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون * ثم إن عليها لشوبا من حميم * ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم‏}‏، فأخبر أنهم تارة يكونون في أكل الزقوم، وتارة في شرب حميم، وتارة يردون إلى جحيم، عياذاً باللّه من ذلك، وهكذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن شجرة الزقزم طعام الأثيم، كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تنوع العذاب عليهم، وتكراره وأنواعه وأشكاله، مما لا يحصيه إلا اللّه عزّ وجلّ، جزاء وفاقاً ‏{‏وما ربك بظلام للعبيد‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏18‏)‏

‏{‏ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد ‏}‏

هذا مثل ضربه اللّه تعالى لأعمال الكفار، الذين عبدوا معه غيره، وكذبوا رسله وبنوا أعمالهم على غير أساس صحيح، فانهارت فقال تعالى‏:‏ ‏{‏مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم‏}‏ أي مثل أعمالهم يوم القيامة إذا طلبوا ثوابها من اللّه تعالى، لأنهم كانوا يحسبون أنهم كانوا على شيء، فلم يجدوا شيئاً إلا كما يتحصل من الرماد إذا اشتدت به الريح العاصفة ‏{‏في يوم عاصف‏}‏ أي ذي ريح شديدة عاصفة قوية، فلم يقدروا على شيء من أعمالهم التي كسبوا في الدنيا، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقدمنا إلى ماعملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا‏}‏، ‏{‏ذلك هو الضلال البعيد‏}‏ أي سعيهم وعملهم على غير أساس ولا استقامة، حتى فقدوا ثوابهم أحوج ما كانوا إليه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏19 ‏:‏ 20‏)‏

‏{‏ ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ‏.‏ وما ذلك على الله بعزيز ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن قدرته على معاد الأبدان يوم القيامة، بأنه خلق السماوات والأرض التي هي أكبر من خلق الناس، أفليس الذي قدر على خلق هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وعظمتها، وما فيها من الكواكب الثوابت والسيارات والآيات الباهرات، وهذه الأرض بما فيها من مهاد ووهاد، وأوتاد وبراري وصحارى وقفار وبحار وأشجار، ونبات وحيوان ‏{‏أولم يرو أن اللّه الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى، بلى إنه على كل شيء قدير‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على اللّه بعزيز‏}‏ أي

بعظيم ولا ممتنع، بل هو سهل عليه إذا خالفتم أمره أن يذهبكم ويأت بآخرين على غير صفتكم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏21‏)‏

‏{‏ وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ‏}‏

يقول ‏{‏وبرزوا‏}‏ أي برزت الخلائق كلها، برها وفاجرها للّه الواحد القهار، أي اجتمعوا له في براز من الأرض، وهو المكان الذي ليس فيه شيء يستر أحداً، ‏{‏فقال الضعفاء‏}‏ وهم الأتباع

لقادتهم وسادتهم وكبرائهم ‏{‏للذين استكبروا‏}‏ عن عبادة اللّه وحده لا شريك له، وعن موافقة الرسل، قالوا لهم‏:‏ ‏{‏إنا كنا لكم تبعا‏}‏ أي مهما أمرتمونا ائتمرنا وفعلنا، ‏{‏فهل أنتم مغنون عنا من عذاب اللّه من شيء‏}‏ أي فهل تدفعون عنا شيئاً من عذاب اللّه كما كنتم تعدوننا وتمنوننا، فقالت القادة لهم‏:‏ ‏{‏لو هدانا اللّه لهديناكم‏}‏ ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين، ‏{‏سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص‏}‏ أي ليس لنا خلاص مما نحن فيه إن صبرنا عليه أو جزعنا منه‏.‏ قال عبد الرحمن بن أسلم‏:‏ إن أهل النار قالوا‏:‏ تعالوا فإنما أدرك أهل الجنة ببكائهم وتضرعهم إلى اللّه عزَّ وجلَّ، تعالوا نبك وتنضرع إلى اللّه، فبكوا وتضرعوا، فلما رأوا أنه لا ينفعهم، قالوا‏:‏ إنما أدرك أهل الجنة الجنة بالصبر، تعالوا حتى نصبر فصبروا صبراً لم ير مثله، فلم ينفعهم ذلك، فعند ذلك قالوا‏:‏ ‏{‏سواء علينا أجزعنا أم صبرنا‏}‏ الآية‏.‏ قلت‏:‏ والظاهر أن هذه المراجعة في النار بعد دخولهم إليها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار‏}‏، وقال ‏{‏حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار، قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا‏}‏، وأما تخاصمهم في المحشر فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول، يقول الذين استضعفوا للذين أستكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين، قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم، بل كنتم مجرمين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏22 ‏:‏ 23‏)‏

‏{‏ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وماأنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم ‏.‏ وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام ‏}‏

يخبر تعالى عما خاطب به إبليس أتباعه بعد ما قضى اللّه بين عباده فأدخل المؤمنين الجنات، وأسكن الكافرين الدركات، فقام فيهم إبليس لعنه اللّه يومئذ خطيباً ليزيدهم حزناً إلى حزنهم وغبناً إلى غبنهم وحسرة إلى حسرتهم فقال‏:‏ ‏{‏إن اللّه وعدكم وعد الحق‏}‏ أي على ألسنة رسله ووعدكم في اتباعهم النجاة والسلامة، وكان وعداً حقاً وخبراً صدقاً وأما أنا فوعدتكم فأخلفتكم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وما كان لي عليكم من سلطان‏}‏ أي ما كان لي عليكم فيما دعوتكم إليه دليل ولا حجة فيما وعدتكم به، ‏{‏إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي‏}‏ بمجرد ذلك، هذا وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاؤوكم به، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه ‏{‏فلا تلوموني‏}‏ اليوم، ‏{‏ولوموا أنفسكم‏}‏ فإن الذنب لكم لكونكم خالفتم الحجج، واتبعتموني بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل، ‏{‏ما أنا بمصرخكم‏}‏ أي بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه، ‏{‏وما أنتم بمصرخي‏}‏ أي بنافعي بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال، ‏{‏إني كفرت بما أشركتمون من قبل‏}‏ قال قتادة‏:‏ أي بسبب ما أشركتموني من قبل، قال ابن جرير‏:‏ يقول إني جحدت أن أكون شريكاً للّه عزَّ وجلَّ، وهذا الذي قاله هو الراجح، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أضل ممن يدعو من دون اللّه من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءاً وكانوا بعبادتهم كافرين‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن الظالمين‏}‏ أي في إعراضهم عن الحق واتباعهم الباطل لهم عذاب أليم، والظاهر من سياق الآية، أن هذه الخطبة تكون من إبليس بعد دخولهم النار كما قدمنا، قال الشعبي‏:‏ يقوم خطيبان يوم القيامة على رؤوس الناس، يقول تعالى لعيسى بن مريم‏:‏ ‏{‏أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون اللّه‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ ويقوم إبليس لعنه اللّه فيقول‏:‏ ‏{‏وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي‏}‏ الآية، ثم ذكر تعالى مآل الأشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنكال، وأن خطيبهم إبليس عطف بمآل السعداء، فقال‏:‏ ‏{‏وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ سارحة فيها حيث ساروا وأين ساروا، ‏{‏خالدين فيها‏}‏ ماكثين أبداً لا يحولون ولا يزولون ‏{‏بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام‏}‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال هم خزنتها سلام عليكم‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ويلقون فيها تحية وسلاما‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد للّه رب العالمين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏24 ‏:‏ 26‏)‏

‏{‏ ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ‏.‏ تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ‏.‏ ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ قوله ‏{‏مثلا كلمة طيبة‏}‏‏:‏ شهادة أن لا إله إلا اللّه ‏{‏كشجرة طيبة‏}‏ وهو المؤمن ‏{‏أصلها ثابت‏}‏ يقول‏:‏ لا إله إلا اللّه في قلب المؤمن، ‏{‏وفرعها في السماء‏}‏ يقول‏:‏ يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء‏:‏ وقال البخاري عن ابن عمر قال‏:‏ كنا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏أخبروني عن شجرة تشبه - أو - كالرجل المسلم، لا يتحات ورقها صيفاً ولا شتاء، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، قال ابن عمر‏:‏ فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئاً قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ هي النخلة ، فلما قمنا قلت لعمر‏:‏ يا أبتاه واللّه وقع في نفسي أنها النخلة، قال‏:‏ ما منعك أن تتكلم‏؟‏ قلت‏:‏ لم أركم تتكلمون، فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئاً، قال عمر‏:‏ لأن تكون قلتها أحب إليَّ من كذا وكذا‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ ‏{‏كشجرة طيبة‏}‏ قال‏:‏ هي شجرة في الجنة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تؤتي أكلها كل حين‏}‏ قيل‏:‏ غدوة وعشياً، وقيل‏:‏ كل شهر، وقيل كل شهرين، وقيل غير ذلك‏.‏ والظاهر من السياق أن المؤمن مثله كمثل شجرة، لا يزال يوجد منها ثمرة في كل وقت، من صيف أو شتاء أو ليل أو نهار، كذلك المؤمن لا يزال يرفع له عمل صالح آناء الليل وأطراف النهار في كل وقت وحين ‏{‏بإذن ربها‏}‏ أي كاملاً حسناً كثيراً طيباً مباركاً ‏{‏ويضرب اللّه الأمثال للناس لعلهم يتذكرون‏}‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة‏}‏ هذا مثل كفر الكافر لا أصل له ولا ثبات، مشبه بشجرة الحنظل ‏"‏روي هذا في حديث مرفوع أن الشجرة الخبيثة هي الحنظلة، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير‏"‏، وقوله‏:‏ ‏{‏اجتثت‏}‏ أي استؤصلت ‏{‏من فوق الأرض ما لها من قرار‏}‏ أي لا أصل لها ولا ثبات، كذلك الكفر لا أصل له ولا فرع، ولا يصعد للكافر عمل ولا يتقبل منه شيء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏27‏)‏

‏{‏ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ‏}‏

روى البخاري، عن براء بن عازب رضي اللّه عنه، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏يثبت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏‏)‏ ‏"‏ورواه مسلم أيضاً وبقية الجماعة‏"‏‏.‏ وقال الإمام أحمد، عن البراء بن عازب قال‏:‏ خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهيا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال‏:‏ ‏(‏استعيذوا باللّه من عذاب القبر‏)‏ مرتين أو ثلاثاً، ثم قال‏:‏ ‏(‏إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من اللّه ورضوان - قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة‏؟‏ فيقولون‏:‏ فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، فيقول اللّه‏:‏ اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أُخرى، قال‏:‏ فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له‏:‏ من ربك‏؟‏ فيقول‏:‏ ‏(‏ربي اللّه، فيقولان له‏:‏ ما دينك‏؟‏ فيقول‏:‏ ديني الإسلام، فيقولان له‏:‏ ما هذا الرجل الذي بعث فيكم‏؟‏ فيقول‏:‏ هو رسول اللّه، فيقولان له‏:‏ وما علمك‏؟‏ فيقول قرأت كتاب اللّه فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال‏:‏ فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول‏:‏ أبشر بالذي كنت يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له‏:‏ من أنت فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير‏؟‏ فيقول‏:‏ أنا عملك الصالح، فيقول‏:‏ رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي‏.‏

قال‏:‏ وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل عليه ملائكة من السماء سود الوجه معهم المسوح فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت، فيجلس عند رأسه فيقول‏:‏ أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من اللّه وغضب - قال - فتفرق في جسده فينتزعه كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا‏:‏ ما هذه الروح الخبيثة‏؟‏ فيقولون‏:‏ فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا يفتح له، ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط‏}‏، فيقول اللّه‏:‏ اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحاً - ثم قرأ‏:‏ ‏{‏ومن يشرك باللّه فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق‏}‏، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له

من ربك‏؟‏ فيقول‏:‏ هاه هاه لا أدري، فيقولان له ما دينك‏؟‏ فيقول‏:‏ هاه هاه لا أدري، فيقولان له‏:‏ ما

هذا الرجل الذي بعث فيكم‏؟‏ فيقول‏:‏ هاه هاه لا أدري، فينادي منادٍ من السماء‏:‏ أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول‏:‏ أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول‏:‏ ومن أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر‏؟‏ فيقول‏:‏ أنا عملك الخبيث، فيقول‏:‏ رب لا تقم الساعة‏.‏

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ إذا خرجت روح العبد المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها قال حماد‏:‏ فذكر من طيب ريحها وذكر المسك - قال - ويقول أهل السماء‏:‏ روح طيبة جاءت من قبل الأرض، صلى اللّه عليك وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق به إلى ربه عزَّ وجلَّ فيقول‏:‏ انطلقوا به إلى آخر الأجل‏.‏ وإن كان الكافر إذا خرجت روحه - قال حماد - وذكر من نتنها، وذكر مقتاّ ويقول أهل السماء روح خبيثة جاءت من قبل الأرض، فيقال‏:‏ انطلقوا به إلى آخر الأجل‏.‏ قال أبو هريرة‏:‏ فرد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا‏.‏ وقال ابن حبان في صحيحيه، عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن المؤمن إذا قبض أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون‏:‏ اخرجي إلى روح اللّه، فتخرج كأطيب ريح مسك، حتى أنه ليناوله بعضهم يشمونه حتى يأتوا به باب السماء، فيقولون‏:‏ ما هذه الريح الطيبة التي جاءت من قبل الأرض‏؟‏ ولا يأتون سماء إلا قالوا مثل ذلك

حتى يأتوا به أرواح المؤمنين، فلهم أشد فرحاً به من أهل الغائب بغائبهم، فيقولون‏:‏ ما فعل فلان، فيقولون‏:‏ دعوه حتى يستريح، فإنه كان في غم، فيقول‏:‏ قد مات أما أتاكم، فيقولون‏:‏ ذهب إلى أمه الهاوية، وأما الكافر فيأتيه ملائكة العذاب بمسح فيقولون‏:‏ اخرجي إلى غضب اللّه، فتخرج كأنتن ريح جيفة، فيذهب به إلى الأرض‏)‏

وروى العوفي، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما في هذه الآية قال‏:‏ إن المؤمن إذا حضره الموت شهدته الملائكة فسلموا عليه وبشروه بالجنة، فإذا مات مشوا مع جنازته، ثم صلوا عليه مع الناس، فإذا دفن أجلس في قبره فيقال له‏:‏ من ربك‏؟‏ فيقول‏:‏ ربي اللّه، فيقال له‏:‏ من رسولك‏؟‏ فيقول‏:‏ محمد صلى اللّه عليه وسلم، فيقال له‏:‏ ما شهادتك‏؟‏ فيقول‏:‏ أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه، فيوسع له في قبره مد بصره‏.‏ وأما الكافر فتنزل عليه الملائكة فيبسطون أيديهم، والبسط هو الضرب ‏{‏يضربون وجوههم وأدبارهم‏}‏ عند الموت، فإذا أدخل قبره أقعد، فقيل له‏:‏ من ربك‏؟‏ فلم يرجع إليهم شيئاً، وأنساه اللّه ذكر ذلك، وإذا قيل‏:‏ من الرسول الذي بعث إليك‏؟‏ لم يهتد له ولم يرجع إليهم شيئاً ‏{‏كذلك يضل اللّه الظالمين‏}‏‏.‏ وقال ابن أبي حاتم، عن أبي قتادة الأنصاري في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يثبت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏ الآية، قال‏:‏ إن المؤمن إذا مات أجلس في قبره، فيقال له‏:‏ من ربك‏؟‏ فيقول‏:‏ اللّه، فيقال له‏:‏ من نبيك‏؟‏ فيقول‏:‏ محمد بن عبد اللّه، فيقال له‏:‏ ذلك مرات ثم يفتح له باب إلى النار، فيقال له‏:‏ انظر إلى منزلك من النار لو زغت، ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له‏:‏ انظر إلى منزلك من الجنة إذا ثبت‏.‏ وإذا مات الكافر أجلس في قبره فيقال له‏:‏ من ربك‏؟‏ من نبيك‏؟‏ فيقول‏:‏ لا أدري، كنت أسمع الناس يقولون، فيقال له‏:‏ لا دريت، ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقال له‏:‏ انظر إلى منزلك إذا ثبت، ثم يفتح له باب إلى النار، فيقال له‏:‏ انظر إلى منزلك إذا زغت، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يثبت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏‏.‏ وقال عبد الرزاق‏:‏ عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه‏:‏ ‏{‏يثبت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا‏}‏ قال‏:‏ لا إله إلا اللّه ‏{‏وفي الآخرة‏}‏ المسألة في القبر، وقال قتادة أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح ‏{‏وفي الآخرة‏}‏‏:‏ في القبر‏.‏ وكذا روي عن غير واحد من السلف، وعن عثمان رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال‏:‏ ‏(‏استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل‏)‏ ‏"‏أخرجه أبو داود في سننه‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏28 ‏:‏ 30‏)‏

‏{‏ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ‏.‏ جهنم يصلونها وبئس القرار ‏.‏ وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار ‏}‏

قال البخاري‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة اللّه كفرا‏}‏، ألم تعلم، كقوله‏:‏ ‏{‏ألم تر كيف‏}‏، ‏{‏ألم تر إلى الذين خرجوا‏}‏‏.‏ البوار‏:‏ الهلاك، بار يبور بوراً، ‏{‏قوما بورا‏}‏ هالكين‏.‏ حدثنا علي بن عبد اللّه، حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء سمع ابن عباس‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة اللّه كفرا‏}‏ قال‏:‏ هو كفار أهل مكة‏.‏ والمعنى جميع الكفار، فإن اللّه تعالى بعث محمداً صلى اللّه عليه وسلم رحمة للعالمين ونعمة للناس، فمن قبلها وقام بشكرها دخل الجنة، ومن ردها وكفرها دخل النار‏.‏ وقال ابن أبي حاتم‏:‏ قام عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه فقال‏:‏ ألا أحد يسألني عن القرآن‏؟‏ فواللّه لو أعلم اليوم أحداً أعلم به مني وإن كان من وراء البحار لأتيته، فقام عبد اللّه بن الكواء، فقال‏:‏ مّنْ ‏{‏الذين بدلوا نعمة اللّه كفرا وأحلوا قومهم دار البوار‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ مشركو قريش

أتتهم نعمة اللّه الإيمان، فبدلوا نعمة اللّه كفراً وأحلوا قومهم دار البوار‏.‏ وقال سفيان الثوري، عن عمر بن الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة اللّه كفرا‏}‏ قال‏:‏ هم الأفجران من قريش‏:‏ بنو المغيرة وبنو أُميَّة، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين‏.‏ وكذا رواه حمزة الزيات عن عمرو بن مرة قال، قال ابن عباس لعمر بن الخطاب‏:‏ يا أمير المؤمنين هذه الآية‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة اللّه كفرا وأحلوا قومهم دار البوار‏}‏ قال‏:‏ هم الأفجران من قريش أخوالي وأعمامك، فأما أخوالي فاستأصلهم اللّه يوم بدر، وأما أعمامك فأملى اللّه لهم

إلى حين‏.‏ وقال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد‏:‏ هم كفار قريش الذين قتلوا يوم بدر؛ وكذا رواه مالك في تفسير عن نافع عن ابن عمر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وجعلوا للّه أندادا ليضلوا عن سبيله‏}‏، أي جعلوا له شركاء عبدوهم معه ودعوا الناس إلى ذلك، ثم قال تعالى‏:‏ مهدداً لهم ومتوعداً لهم على لسان نبيّه صلى اللّه عليه وسلم ‏{‏قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار‏}‏ أي مهما قدرتم عليه في الدنيا فافعلوا فهما يكن من شيء ‏{‏فإن مصيركم إلى النار‏}‏ أي مرجعكم وموئلكم إليها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ‏}‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏31‏)‏

‏{‏ قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ‏}‏

يقول تعالى آمراً عباده بطاعته، والقيام بحقه والإحسان إلى خلقه، بأن يقيموا الصلاة، وأن ينفقوا مما رزقهم اللّه، بأداء الزكوات والنفقة على القرابات والإحسان إلى الأجانب، والمراد بإقامتها هو المحافظة على وقتها وحدودها وركوعها وخشوعها وسجودها، وأمر تعالى بالإنفاق مما رزق في السر، أي في الخفية والعلانية وهي الجهر، وليبادروا إلى ذلك لخلاص أنفسهم ‏{‏من قبل أن يأتي يوم‏}‏ وهو يوم القيامة، ‏{‏لا بيع فيه ولا خلال‏}‏ أي ولا يقبل من أحد فدية بأن تباع نفسه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا خلال‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ يقول‏:‏ ليس هناك مخالة خليل فيصبح عمن استوجب العقوبة عن العقاب لمخالفته، بل هناك العدل والقسط، يخبر تعالى أنه لا ينفع أحداً بيع ولا فدية، ولو افتدى بملء الأرض ذهباً لو وجده، ولا تنفعه صداقة أحد ولا شفاعة أحد، إذا لقي اللّه كافراً، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين أمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏32 ‏:‏ 34‏)‏

{‏ الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار ‏.‏وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار ‏.‏ وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ‏}

يعدد تعالى نعمه على خلقه بأن خلق لهم السموات سقفاً محفوظاً والأرض فراشاً، ‏{‏وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم‏}‏ ما بين ثمار وزروع مختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح والمنافع، وسخر الفلك بأن جعلها طافية على تيار ماء البحر، تجري عليه بأمر اللّه تعالى، وسخر البحر لحملها ليقطع المسافرون بها من إقليم إلى إقليم آخر لجلب ما هنا إلى هناك، وما هناك إلى هنا، وسخر الأنهار تشق الأرض من قطر إلى قطر، رزقاً للعباد، ‏{‏وسخر لكم الشمس والقمر دائبين‏}‏ أي يسيران لا يفتران ليلاً ولا نهاراً ‏{‏لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون‏}‏، ‏{‏يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا‏}‏ فالشمس والقمر يتعاقبان، والليل والنهار يتعارضان، فتارة يأخذ هذا من هذا فيطول، ثم يأخذ الآخر من هذا فيقصر، ‏{‏يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وآتاكم من كل ما سألتموه‏}‏ يقول‏:‏ هيأ لكم كل ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألونه بحالكم وقالكم‏.‏ وقال بعض السلف‏:‏ من كل ما سألتموه وما لم تسألوه، وقوله‏:‏ ‏{‏وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها‏}‏، يخبر تعالى عن عجز العباد عن تعداد النعم فضلاً عن القيام بشكرها، كما قال طلق بن حبيب رحمه اللّه‏:‏ إن حق اللّه أثقل من أن يقوم به العباد، وإن نعم اللّه أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصحبوا تائبين وأمسوا تائبين‏.‏ وفي صحيح البخاري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏(‏اللهم لك الحمد غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا‏)‏ وقد روي في الأثر أن داود عليه السلام قال‏:‏ يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك عليّ‏؟‏ فقال اللّه تعالى‏:‏ الآن شكرتني يا داود، أي حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر المنعم‏.‏ وقال الإمام الشافعي رحمه اللّه‏:‏ الحمد للّه الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه، إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها، وقال القائل في ذلك‏:‏

لو كان جارحة مني لها لغة * تثني عليك بما أوليتَ من حسن

لكان ما زاد شكري إذ شكرت به * إليك أبلغ في الإحسان والمنن‏.

 الآية رقم ‏(‏35 ‏:‏ 36‏)‏

‏{‏ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ‏.‏ رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ‏}‏

يذكر تعالى في هذا المقام محتجاً على مشركي العرب بأن البلد الحرام مكة، إنما وضعت أول ما وضعت على عبادة اللّه وحده لا شريك له، وأن إبراهيم الذي كانت عامرة بسببه آهلة تبرأ مّمن عبد غير اللّه، وأنه دعا لمكة بالأمن فقال‏:‏ ‏{‏رب اجعل هذا البلد آمنا‏}‏، وقد استجاب اللّه له فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا‏}‏ الآية‏.‏ وقال في هذه القصة‏:‏ ‏{‏رب اجعل هذا البلد آمنا‏}‏ فعرفه لأنه دعا به بعد بنائها، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏الحمد للّه الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحق‏}‏، ومعلوم أن إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة، وقوله‏:‏ ‏{‏واجنبني وبني أن نعبد الأصنام‏}‏ ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته، ثم ذكر أنه افتتن بالأصنام خلائق من الناس، وأنه تبرأ ممن عبدها ورد أمرهم إلى اللّه إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، كقول عيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏ وليس فيه أكثر من الرد إلى مشيئة اللّه تعالى لا تجويز وقوع ذلك‏.‏ قال عبد اللّه بن وهب، عن عبد اللّه بن عمرو أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلا قول إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏رب إنهن أضللن كثيرا من الناس‏}‏ الآية، وقول عيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏إن تعذبهم فإنهم عبادك‏}‏ الآية، ثم رفع يديه ثم قال‏:‏ ‏(‏اللهم أمتي، اللهم أمتي، اللهم أمتي‏)‏ وبكى، فقال اللّه‏:‏ اذهب يا جبريل إلى محمد، وربك أعلم؛ وسله ما يبكيك‏؟‏ فأتاه جبريل عليه السلام، فسأله فأخبره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما قال، فقال اللّه‏:‏ اذهب إلى محمد فقل له‏:‏ إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏37‏)‏

‏{‏ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ‏}‏

وهذا يدل على أن هذا دعاء ثان بعد الدعاء الأول الذي دعا به عندما ولى عن هاجر وولدها، وذلك قبل بناء البيت، وهذا كان بعد بنائه تأكيداً ورغبة إلى اللّه عزّ وجلّ، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏عند بيتك المحرم‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ربنا ليقيموا الصلاة‏}‏ أي إنما جعلته محرماً ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده ‏{‏فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم‏}‏، قال ابن عباس وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما ‏:‏ لو قال أفئدة الناس لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم، ولكن قال‏:‏ ‏{‏من الناس‏}‏ فاختُص به المسلمون‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وارزقهم من الثمرات‏}‏ أي ليكون ذلك عوناً لهم على طاعتك، وكما أنه واد غير ذي زرع فاجعل لهم ثماراً يأكلونها، وقد استجاب اللّه ذلك، كما قال‏:‏ ‏{‏أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبي إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا‏}‏ وهذا من لطفه تعالى وكرمه ورحمته وبركته أنه لس في البلد الحرام مكة شجرة مثمرة، وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها استجابة لدعاء الخليل عليه السلام‏.‏

 الآية رقم ‏(‏38 ‏:‏ 41‏)‏

‏{‏ ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ‏.‏ الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء ‏.‏ رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ‏.‏ ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ‏}‏

قال ابن جرير‏:‏ يقول تعالى مخبراً عن إبراهيم خليله أنه قال‏:‏ ‏{‏ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن‏}‏ أي أنت تعلم قصدي في دعائي وما أردت بدعائي لأهل هذا البلد، وإنما هو القصد إلى رضاك والإخلاص لك، فإنك تعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها لا يخفى عليك منها شيء في الأرض ولا في السماء، ثم حمد ربه عزَّ وجلَّ على ما رزقه من الولد بعد الكبر فقال‏:‏ ‏{‏الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء‏}‏ أي أنه يستجيب لمن دعاه، وقد استجاب لي فيما سألته من الولد، ثم قال‏:‏ ‏{‏رب اجعلني مقيم الصلاة‏}‏ أي محافظاً عليها مقيماً لحدودها ‏{‏ومن ذريتي‏}‏ أي واجعلهم كذلك مقيمين لها يعني بذريته‏:‏ بني إسماعيل الذين

تناسلت فيهم عرب الحجاز‏.‏ وقيل أيضاً عرب اليمن، وذريته اثنا عشر رجلاً وامرأة‏"‏، ‏{‏ربنا وتقبل دعاء‏}‏ أي فيما سألتك فيه ‏{‏ربنا اغفر لي ولوالدي‏}‏، وكان هذا قبل أن يتبرأ من أبيه لما تبين عداوته للّه عزَّ وجلَّ ‏{‏وللمؤمنين‏}‏ أي كلهم ‏{‏يوم يقوم الحساب‏}‏ أي يوم تحاسب عبادك فتجازيهم بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏42 ‏:‏ 43‏)‏

‏{‏ ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ‏.‏ مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ولا تحسبن اللّه - يا محمد - غافلاً عما يعمل الظالمون، أي لا تحسبنه إذا أنظرهم وأجلهم أنه غافل عنهم، مهمل لهم لا يعاقبهم على صنعهم، بل هو يحصي ذلك عليهم ويعده عليهم عداً، ‏{‏إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار‏}‏ أي من شدة الأهوال يوم القيامة‏:‏ ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إلى قيام المحشر، فقال‏:‏ ‏{‏مهطعين‏}‏ أي مسرعين،

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مهطعين إلى الداع‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له‏}‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يخرجون من الأجداث سراعاً‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏مقنعي رؤوسهم‏}‏ قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد‏:‏ رافعي رؤوسهم، ‏{‏لا يرتد إليهم طرفهم‏}‏ أي أبصارهم ظاهرة شاخصة مديمون النظر، لا يطرفون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والمخافة لما يحل بهم عياذاً باللّه العظيم من ذلك؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وأفئدتهم هواء‏}‏ أي وقلوبهم خاوية خالية ليس فيها شيء لكثرة الوجل والخوف، ولهذا قال قتادة وجماعة‏:‏ إن أمكنة أفئدتهم خالية، لأن القلوب لدى الحناجر قد

خرجت من أماكنها من شدة الخوف‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هي خراب لا تعي شيئاً لشدة ما أخبر به تعالى عنهم، ثم قال تعالى لرسوله صلى اللّه عليه وسلم‏:‏

 الآية رقم ‏(‏44 ‏:‏ 46‏)‏

‏{‏ وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ‏.‏ وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ‏.‏ وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن قيل الذين ظلموا أنفسهم عند معانية العذاب‏:‏ ‏{‏ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون‏}‏ الآية‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم‏}‏ الآيتين، وقال تعالى مخبراً عنهم في حال محشرهم‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم‏}‏ الآية، وقال‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وهم يصطرخون فيها‏}‏ الآية، قال تعالى راداً عليهم في قولهم هذا‏:‏ ‏{‏أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال‏}‏ أي أو لم تكونوا تحلفون في قبل هذه الحالة أنه لا زوال لكم عما أنتم فيه، وأنه لا معاد ولا جزاء فذوقوا هذا بذلك، قال مجاهد وغيره ‏{‏ما لكم من زوال‏}‏‏:‏ أي ما لكم من انتقال من الدنيا إلى الآخرة، كقوله‏:‏ ‏{‏وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لا يبعث اللّه من يموت‏}‏ الآية، ‏{‏وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال‏}‏ أي قد رأيتم وبلغكم ما أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر ولم يكن فيما أوقعنا بهم مزدجر ‏{‏حكمة بالغة فما تغن النذر‏}‏‏.‏ وروى العوفي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال‏}‏ يقول‏:‏ ما كان مكرهم لتزول منه الجبال، وكذا قال الحسن البصري، ووجهه ابن جرير بأن هذا الذي فعلوه بأنفسهم من شركهم باللّه وكفرهم به ما ضر ذلك شيئاً من الجبال ولا غيرها، وإنما عاد وبال ذلك عليهم، ويشبه هذا قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا‏}‏، والقول الثاني في تفسيرها ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ‏{‏وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال‏}‏ يقول‏:‏ شركهم كقوله‏:‏ ‏{‏تكاد السموات يتفطرن منه‏}‏ الآية، وهكذا قال الضحاك وقتادة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏47 ‏:‏ 48‏)‏

‏{‏ فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام ‏.‏ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ‏}‏

يقول تعالى مقرراً لوعده ومؤكداً ‏{‏فلا تحسبن اللّه مخلف وعده رسله‏}‏ أي من نصرتهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، ثم أخبر تعالى أنه ذو عزة لا يمنتع عليه شيء أراده ولا يغالب، وذو انتقام ممن كفر به وجحده، ‏{‏فويل يومئذ للمكذبين‏}‏، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات‏}‏ أي وعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض، كما جاء في الصحيحين، عن سهل بن سعد قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها معلم لأحد‏)‏، وقال الإمام أحمد، عن عائشة أنها قالت‏:‏ أنا أول الناس سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات‏}‏ قالت، قلت‏:‏ أين الناس يومئذ يا رسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏على الصراط‏)‏ ‏"‏رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏"‏‏.‏ وقال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه عن ثوبان مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ كنت قائماً عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجاءه حبر من أحبار يهود فقال‏:‏ السلام عليك يا محمد، فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقال‏:‏ لم تدفعني‏؟‏ فقلت‏:‏ ألا تقول يا رسول اللّه‏؟‏ فقال اليهودي‏:‏ إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي‏)‏، فقال اليهودي‏:‏ جئت أسألك، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أينفعك شيئاً إن حدثتك‏)؟‏ فقال‏:‏ أسمع بأذني، فنكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعود معه، فقال‏:‏ سل ، فقال اليهودي‏:‏ أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ هم في الظلمة دون الجسر ، قال‏:‏ فمن أول الناس إجازة‏؟‏ فقال‏:‏ فقراء المهاجرين ، فقال اليهودي‏:‏ فما تحفتهم حين يدخلون الجنة‏؟‏ قال‏:‏ زيادة كبد النون ، قال‏:‏ فما غذاؤهم في أثرها‏؟‏ قال‏:‏ ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها ، قال‏:‏ فما شرابهم عليه‏؟‏ قال‏:‏ من عين فيها تسمى سلسبيلاً ، قال‏:‏ صدقت‏.‏ قال‏:‏ وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان، قال‏:‏ أينفعك إن حدثتك ‏؟‏ قال‏:‏ أسمع بأذني، قال جئت أسألك عن الولد، قال‏:‏ ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا منيّ الرجل منيّ المرأة كان ذكراً بإذن اللّه، وإذا علا منيّ المرأة منيّ الرجل كان أنثى بإذن اللّه ،

قال اليهودي‏:‏ لقد صدقت، وإنك لنبي، ثم انصرف، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه وما لي علم بشيء منه حتى أتاني اللّه به‏)‏

وروى أبو جعفر بن جرير الطبري، عن عمرو بن ميمون يقول‏:‏ ‏{‏يوم تبدل الأرض غير الأرض‏}‏ قال‏:‏ أرض كالفضة البيضاء النقية، لم يسفك فيها دم، ولم يعمل عليها خطيئة، ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي حفاة عراة كما خلقوا، قال، أراه قال قياماً حتى يلجمهم العرق، وعن عمرو بن ميمون عن عبد اللّه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قول اللّه عزَّ وجلَّ ‏{‏يوم تبدل الأرض غير الأرض‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏أرض بيضاء لم يسفك عليها دم، ولم يعمل عليها خطيئة‏)‏ ‏"‏رواه الحافظ أبو بكر البزار‏"‏‏.‏ وقال الربيع، عن أبي بن كعب قال‏:‏ تصير السماوات جناناً‏.‏ وقال الأعمش، عن عبد اللّه بن مسعود‏:‏ الأرض كلها نار يوم القيامة، والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها، والذي نفس عبد اللّه بيده إن الرجل ليفيض عرقاً حتى ترشح في الأرض قدمه، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه، وما مسه الحساب، قالوا‏:‏ ممَ ذلك يا أبا عبد الرحمن‏؟‏ قال مما يرى الناس ويلقون‏.‏ وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنَس عن كعب في قوله‏:‏ ‏{‏يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات‏}‏ قال‏:‏ تصير السماوات جناناً ويصير مكان البحر ناراً وتبدل الأرض غيرها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وبرزوا للّه‏}‏ أي خرجت الخلائق جميعها من قبورهم للّه ‏{‏الواحد القهار‏}‏ أي الذي قهر كل شيء وغلبه، ودانت له الرقاب وخضعت له الألباب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏49 ‏:‏ 51‏)‏

‏{‏ وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد ‏.‏ سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ‏.‏ ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات‏}‏ وتبرز الخلائق لديَّانها ترى يا محمد يومئذ المجرمين وهم الذين أجرموا بكفرهم وفسادهم، ‏{‏مقرنين‏}‏ أي بعضهم إلى بعض قد جمع بين النظراء أو الأشكال منهم كل صنف إلى صنف، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏احشروا الذين ظلموا وأزواجهم‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏وإذا النفوس زوجت‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد‏}‏ والأصفاد هي القيود قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والأعمش وعبد الرحمن بن زيد ، قال عمرو بن كلثوم‏:‏

فآبوا، بالثياب وبالسبايا * وأبنا بالملوك مصفدينا

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سرابيلهم من قطران‏}‏ أي ثيابهم التي يلبسونها من قطران، وهو الذي تهنأ به الإبل، أي تطلى، قال قتادة‏:‏ وهو ألصق شيء بالنار، وكان ابن عباس يقول‏:‏ القطران هو النحاس المذاب وهو مروي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة ، أي من نحاس حار قد انتهى حره، وقوله‏:‏ ‏{‏وتغشى وجوههم النار‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون‏}‏، وقال الإمام أحمد، عن أبي مالك الأشعري قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن‏:‏ الفخر بالأحساب، والطعن بالأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت، والنائحة إذا لم تتب قبل موتها؛ تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب‏)‏ ‏"‏أخرجه مسلم والإمام أحمد في المسند‏"‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ليجزي اللّه كل نفس ما كسبت‏}‏ أي يوم القيامة ‏{‏ليجزي الذين أساءوا بما عملوا‏}‏ الآية، ‏{‏إن اللّه سريع الحساب‏}‏ يحتمل أن يكون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون‏}‏ ويحتمل أنه في حال محاسبة لعبده سريع النجاز، لأنه يعلم كل شيء ولا يخفى عليه خافية، وإن جميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة‏}‏، وهذا معنى قول مجاهد‏:‏ ‏{‏سريع الحساب‏}‏ إحصاءً، ويحتمل أن يكون المعنيان مرادين واللّه أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏52‏)‏

‏{‏ هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ هذا القرآن بلاغ للناس، كقوله‏:‏ ‏{‏لأنذركم به ومن بلغ‏}‏ أي هو بلاغ لجميع الخلائق من إنس وجن كما قال في أول السورة‏:‏ ‏{‏كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور‏}‏ الآية، و‏{‏لينذروا به‏}‏ أي ليتعظوا به، ‏{‏وليعلموا أنما هو إله واحد‏}‏ أي يستدلوا بما فيه من الحجج والدلالات على أنه لا إله إلا هو، ‏{‏وليذكر أولو الألباب‏}‏ أي ذوو العقول‏.‏